الموسوعة القرآنيّة - ج ٣

ابراهيم الأبياري

الموسوعة القرآنيّة - ج ٣

المؤلف:

ابراهيم الأبياري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة سجل العرب
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٢٤

وهى تنقسم إلى :

١ ـ مرشحة ، وهى أن تنظر إلى جانب المستعار منه وتراعيه كقوله تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ) البقرة : ١٦ ، فإن المستعار منه ، الذى هو الشراء ، هو المراعى هنا ، وهو الذى رشح لفظى الربح والتجارة للاستعارة لما بينهما من الملامعة.

٢ ـ تجريدية ، وهى أن تنظر إلى جانب المستعار له ، ثم تأتى بما يناسبه ويلائمه ، كقوله تعالى : (فَأَذاقَهَا اللهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ) النحل : ١١٦.

* * *

(٨) الاستفهام :

وهو طلب ما فى الخارج ، أو تحصيله فى الذهن ، وهو قسمان :

١ ـ بمعنى الخبر. ٢ ـ بمعنى الإنشاء.

والأول ضربان ، وهو الذى بمعنى الخبر :

(أ) نفى ، ويسمى استفهام إنكار ، لأنه يطلب به إنكار المخاطب ، والمعنى فيه على أن ما بعد الأداة منفى ، ولذلك تصحبه «إلا» ، كقوله تعالى : (فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ) الأحقاف : ٣٥ ، وهو قسمان :

١ ـ إبطالى ، وهو أن يكون ما بعد همزة الاستفهام غير واقع ، نحو قوله تعالى : (أَفَأَصْفاكُمْ) الإسراء : ٤٠.

٢ ـ حقيقى ، وهو أن يكون ما بعدها واقع ، نحو قوله تعالى (أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ) الصافات : ٩٥.

(ب) إثبات ، ويسمى استفهام تقرير ، لأنه يطلب به إقرار المخاطب. والتقرير حملك المخاطب على الإقرار والاعتراف بأمر قد استقر عنده ، ولا يستعمل ذلك بهل. والكلام مع التقرير موجب ، ولذلك يعطف عليه صريح الموجب ، كقوله تعالى : (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى ، وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى) الضحى : ٦ ، ٧ ، ويعطف على

٢١

صريح الموجب ، كقوله تعالى : (أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً) النمل ٨٤.

واستفهام الإثبات على أنواع :

١ ـ مجرد الإثبات ، نحو قوله تعالى : (أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ) الفيل : ٢.

٢ ـ الإثبات مع الافتخار ، نحو قوله تعالى : (أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ) الزخرف : ٥١.

٣ ـ الإثبات مع التوبيخ ، نحو قوله تعالى : (أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ واسِعَةً) الأنبياء : ٩٧ ، أى هى واسعة ، فهلا هاجرتم فيها.

٤ ـ الإثبات مع العتاب ، نحو قوله تعالى : (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ) الحديد : ٦.

٥ ـ الإثبات مع التسوية. ويكون مع الهمزة الداخلة على جملة يصح حلول المصدر محلها ، نحو قوله تعالى : (وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ) يس : ١٠ ، أى سواء عليهم الإنذار وعدمه.

٦ ـ الإثبات مع التعظيم ، نحو قوله تعالى : (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ) البقرة ٢٥٥.

٧ ـ الإثبات مع التهويل ، نحو قوله تعالى : (الْحَاقَّةُ مَا الْحَاقَّةُ) الحاقة : ١.

٨ ـ الإثبات مع التسهيل والتخفيف ، نحو قوله تعالى (وَما ذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللهِ) النساء ٣٩.

٩ ـ الإثبات مع التفجع ، نحو قوله تعالى : (ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها) : الكهف : ٤٩.

١٠ ـ الإثبات مع التكثير ، نحو قوله تعالى : (وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها) الأعراف ٤.

١١ ـ الإثبات مع الاسترشاد ، نحو قوله تعالى : (أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها) البقرة ٣٠.

٢٢

ـ ٢ ـ

والثانى ، وهو الذى بمعنى الإنشاء ، وهو على ضروب :

١ ـ مجرد الطلب ، وهو الأمر ، كقوله تعالى : (أَفَلا تَذَكَّرُونَ) يونس : ٣.

أى : اذكروا.

٢ ـ النهى ، كقوله تعالى : (ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ) الانفطار : ٦ أى لا يغرك.

٣ ـ التحذير ، كقوله تعالى : (أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ) المرسلات : ١٦ ، أى قدرنا عليهم فنقدر عليكم.

٤ ـ التذكير ، كقوله تعالى : (قالَ هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ) يوسف : ٨٩.

٥ ـ التنبيه ، وهو من أقسام الأمر ، كقوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ) البقرة : ٢٥٨.

٦ ـ الترغيب ، كقوله تعالى : (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً) الحديد ١١.

٧ ـ التمنى ، كقوله تعالى : (فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ) الأعراف ٥٣.

٨ ـ الدعاء ، وهو كالنهى ، إلا أنه من الأدنى إلى الأعلى ، كقوله تعالى : (أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا) الأعراف ١٥٥.

٩ ـ العرض ، وهو الطلب برفق ، كقوله تعالى : (أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ) النور : ٢٢.

١٠ ـ التحضيض ، وهو الطلب بشق ، كقوله تعالى : (أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ. قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ) الشعراء ١٠ ، ١١ أى ائتهم وأمرهم بالاتقاء.

١١ ـ الاستبطاء ، كقوله تعالى : (وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) يس : ٤٨.

١٢ ـ الإياس ، كقوله تعالى : (فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ) التكوير : ٢٦.

١٣ ـ الإيناس ، كقوله تعالى : (وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى) طه : ١٧.

١٤ ـ التهكم والاستهزاء ، كقوله تعالى : (أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ) هود : ٨٧.

٢٣

١٥ ـ التحقير ، كقوله تعالى : (وَإِذا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللهُ رَسُولاً) الفرقان : ٤١.

١٦ ـ التعجب ، كقوله تعالى : (ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ) النمل : ٢٠.

١٧ ـ الاستبعاد ، كقوله تعالى : (أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ) الدخان ١٣ ، أى يستبعد ذلك منهم بعد أن جاءهم الرسول ثم تولوا.

١٨ ـ التوبيخ ، كقوله تعالى : (أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ) آل عمران : ٨٣.

* * *

(٩) الاسم :

إذا ذكر الاسم مرتين فله أربعة أحوال :

١ ـ أن يكونا معرفتين ، والثانى منهما هو الأول غالبا ، حملا له على المعهود الذى هو الأصل فى الكلام والإضافة ، كقوله تعالى : (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً. إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً) الانشراح : ٥ ، ٦.

وقد يكونان غيرين ، كقوله تعالى : (هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ) الرحمن :

٦٠ ، فإن الأول هو العمل والثانى الثواب.

٢ ـ أن يكونا نكرتين ، فالثانى غير الأول ، وإلا لكان المناسب هو التعريف ، بناء على كونه معهودا سابقا ، كقوله تعالى : (اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً) الروم : ٥٤ ، فإن كلا منهما غير الآخر ، فالضعف الأول النطفة أو التراب ، والثانى الضعف الموجود فى الطفل والجنين. والثالث فى الشيخوخة ، والقوة الأولى التى تجعل للطفل حركة وهداية لاستدعاء اللبن والدفع عن نفسه بالبكاء ، والثانية بعد البلوغ.

٣ ـ أن يكون الأول نكرة والثانى فيه هو الأول ، كقوله تعالى : (كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً. فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ) المزمل : ١٥ ، ١٦.

٤ ـ أن يكون الأول معرفة والثانى نكرة ، وهذا يتوقف على القرائن :

٢٤

(أ) فتارة تقوم قرينة على التغاير ، كقوله تعالى : (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ) الروم : ٥٥.

(ب) وتارة تقوم قرينة على الاتحاد ، كقوله تعالى : (وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ. قُرْآناً عَرَبِيًّا) الزمر : ٢٧ ، ٢٨.

* * *

(١٠) ـ أسماء كتاب الله :

ولقد سمى الله ما أنزله على رسوله : قرآنا ، وكتابا ، وكلاما ، وفرقانا ، وذكرا ، وقولا. وقد أنهاها بعضهم إلى نيف وتسعين اسما ، وجعلها بعضهم خمسة وخمسين اسما ، وأكثر ما ذكروه يعد من قبيل الصفات ، من ذلك : الهادى ، والقيم.

وأكثر هذه الأسماء دورانا هو لفظ القرآن ، فقد جاء فى نحو من سبعين آية ، وكان فى كلها صريحا فى اسميته ومدلوله الخاص ، من أجل ذلك كتبت لهذه اللفظ الغلبة على غيره ، وكان هذا الاسم الغالب لكتاب الله الذى جاء به محمد وحفظه عنه المسلمون. ويؤثر عن الشافعى أنه قال : القرآن اسم علم غير مشتق خاص بكلام الله فهو غير مهموز ، لم يؤخذ من قراءة ، لكنه اسم لكتاب الله ، مثل : التوراة والإنجيل.

ويقول الزجاج : إن ترك الهمز فيه من باب التخفيف ونقل حركة الهمز إلى الساكن الصحيح قبلها.

والقائلون بالهمز مختلفون ، وأوجه ما فى خلافهم رأيان :

أولهما : أنه مصدر لقرأت ، مثل : الرجحان ، والغفران ، سمى به الكتاب المقروء ، من باب تسمية المفعول بالمصدر.

والرأى الثانى : أنه وصف على فعلان ، مشتق من القرء ، بمعنى الجمع.

وأما تسميته بالمصحف فكانت تسمية متأخرة جاءت بعد جمع القرآن وكتابته ، وكانت من وضع الناس ، فإنهم يحكون أن عثمان حين كتب المصحف التمس له اسما فانتهى الناس إلى هذا الاسم. غير أن هذا يكاد يكون مردودا ، فلقد سبق

٢٥

أن علمت أن ثمة مصاحف كانت موجودة قبل جمع عثمان ، هى مصحف على ، ومصحف أبى ، ومصحف ابن مسعود ، ومصحف ابن عباس.

والمصحف : هو الجامع للصحف المكتوبة بين الدفتين.

ويقال فيه : مصحف ، ومصحف ، بضم الميم وكسرها مع فتح الحاء ، والضمة هى الأصل ، والكسرة لاستثقال الضمة ، فمن ضم جاء به على أصله ، ومن كسر فلاستثقال الضمة.

* * *

(١١) الاشتغال :

وهو اشتغال الفعل عن المفعول بضميره ، والشيء إذا أضمر ثم فسر كان أفخم ، مما إذا لم يتقدم إضمار ، ومنه قوله تعالى : (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ) التوبة : ٦ ، فهذا لا تجد مثله إذا قلت : وإن استجارك أحد من المشركين فأجره ، إذ الفعل المفسر فى تقدير المذكور مرتين.

* * *

(١٢) الاعتراض :

وهو أن يؤتى فى أثناء كلام أو كلامين متصلين معنى بشيء يتم الغرض الأصلى بدونه ولا يفوت بفواته ، فيكون فاصلا بين الكلام والكلامين لنكتة. وله أسباب ، منها :

١ ـ تقرير الكلام ، كقوله تعالى : (تَاللهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ) يوسف : ٧٣ ، فجملة (لَقَدْ عَلِمْتُمْ) اعتراض ، والمراد تقرير إثبات البراءة من تهمة السرقة.

٢ ـ قصد التنزيه ، كقوله تعالى : (وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ ، سُبْحانَهُ وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ) النحل : ٥٧.

٣ ـ قصد التبرك ، كقوله تعالى : (لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ) الفتح : ٢٧.

٢٦

٤ ـ قصد التأكيد ، كقوله تعالى : (فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ. وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ) الواقعة : ٧٥ ، ٧٦ وفيها اعتراضان ، اعتراض بقوله : (وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ) بين القسم وجوابه ، واعتراض بقوله (لَوْ تَعْلَمُونَ) بين الصفة والموصوف. والمراد تعظيم شأن ما أقسم به من مواقع النجوم وتأكيد إحلاله فى النفوس.

٥ ـ كون الثانى بيانا للأول ، كقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) البقرة : ٢٢٢ ، فإنه اعتراض بين قوله : (فَأْتُوهُنَ) البقرة : ٢٢٢ ، وبين قوله : (نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ) البقرة. ٢٢٣ ، وهما متصلان معنى ، لأن الثانى بيان للأول ، كأنه قال : فأتوهن من حيث يحصل منه الحرث.

٦ ـ تخصيص أحد المذكورين بزيادة التأكيد على أمر علق بهما ، كقوله تعالى : (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ) لقمان : ١٤ ، فاعترض بقوله : (حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ) وبين «ووصّينا» ، وبين الموصى به ، وذلك لإذكار الولد بما كابدته أمه من المشقة. فى حمله وفصاله ، فذكر الحمل والفصال يفيد زيادة التوصية بالأم ، لتحملها من المشاق والمتاعب فى حمل الولد ما لا يتكلفه الوالد.

٧ ـ زيادة الرد على الخصم ، كقوله تعالى : (وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ) النحل : ١٠١ ، فاعترض بإذا ، وجوابها بقوله (وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ) البقرة : ٧٣ فكأنه أراد أن يجيبهم عن دعواهم فجعل الجواب اعتراضا.

٨ ـ الإدلاء بالحجة ، كقوله تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ. بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ) النحل : ٤٣ ، ٤٤ : فاعترض بقوله : (فَسْئَلُوا) بين قوله : (نُوحِي إِلَيْهِمْ) وبين قوله : (بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ) إظهارا لقوة الحجة عليهم.

* * *

٢٧

(١٣) الإعجاز :

فى خضم هذه الحياة الواسع المضطرب كان لا بد للناس من هداة يرسمون لهم الطريق إلى الخير ويبينون لهم مزالق الشر ، كى تستقيم بهم ولهم حياتهم.

والهداة كما يكونون من صنع المكان والزمان. ، شأنهم فى ذلك شأن غيرهم من عباقرة الفن والعلم ؛ يهيشهم وجودهم بملابساته وأحداثه إلى منزلة من المنازل التى يحتلونها على أساس من فطرة يخصون بها من بين لداتهم ، كما يكونون كذلك يكونون من صنع السماء ، والفرق بين الحالين أنهم فى الأولى مستنبطون وفى الثانية ملهمون. وهم فى الأولى ذوو رأى يعرضونه ، وفى الثانية ذوو أمر يبلغونه. وهذا هو الفرق بين الرائى والملهم. وإذ كانا مستويين فى تقدير الناس لأول وهلة كان لا بد من أن يظهر على يد ثانيهما ما يدفع هذا التساوى ، وكان لا بد أن يكون هذا الذى يظهر على يديه معجزا لا يتأتى للأول فعله ، ولا قوة لمألوف حياة الناس على مثله ، مع اختلاف الأزمنة والبيئات.

فالمعجز لا يتحقق إعجازه إلا إذا لم يسبقه شبهه فى عصر ما ولا فى مكان ما ، وإلا إذا لم يقم له شبهه فى عصره الذى ظهر فيه بجميع بيئاته. ثم هو بهذين مالك حجته على المستقبل ، لا يصح أن ينكشف هذا المستقبل عن شبيه بهذا المعجز ، وإلا كان هذا المعجز نوعا من السبق تهيأت أسبابه لفرد قبل فرد وفى عصر دون عصر وفى بيئة دون بيئة.

بهذا كله اتصفت حجة السماء كى تسمو على حجة الأرض وكى تملك أن تقنع الناس ، وكى تملك أن يقتنع الناس بها.

ولعل معترضا يقول : إذن فلا يصح تسليم بيئة بمعجز قيل أن يتم لهذه البيئة تعرف حكم البيئات الأخرى على هذا المعجز ، كما أنه لا يصح أن يعجل المرء على التسليم ، بل لا بد أن يرخى له إلى أن يبلغ غايته.

ولقد فات هذا المعترض أن التسليم بالمقبول عقلا أو قوة فطرة الحياة وبها

٢٨

تمضى ، والتخلف عن هذا تعطيل لسنة الحياة ووقوف بالعقل دون أن يقضى فى شىء ، والأمر فى الدينيات يزيد شيئا ، إذ التسليم بها أو التأبى عليها أمران لهما حكمهما فى مصير الإنسان ، وإن هو ودع حياته دون أن يأخذ بالأصلح مضى بوزره ، ثم إن هذا الذى اشترطناه من إجماع البيئات والعصور دليل توكيد لا دليل إثبات ، يقوم حجة للخلف البعيد عن المعجزة مقام الدليل للسلف الذى عاصر المعجزة ، فما جاء على يد ، موسى عليه‌السلام لم يسبق إليه ولم يستطعه عصره ويجب أن يمتد هذا إلى الأبد ، وما جاء على يد عيسى عليه‌السلام لم يسبق إليه ولم يستطعه عصره ، ويجب أن يمتد هذا إلى الأبد.

وثمة شىء أحب أن أضيفه غير إجماع البيئات وإجماع العصور ، وهو أن تكون المعجزة مما تكون أسبابه مملوكة ، أو متخيلة فعلا أو قوة لمن تتحداهم ، وأن يكونوا ذوى أهلية للحكم عليها ، على أى لون كانت هذه الأهلية : ذاتية ، مثل أن تتحدى الطبيب بطب ، أو حملية مثل أن تتحدى بالطب غير الطبيب ، إذ المفروض فيما يتحدى به أن يشمل من يعرف عنه ومن لا يعرف عنه ، وإن اختلف موقف كل منهما من هذا المتحدى به. فإقرار العارف يختلف لا شك عن إقرار الجاهل إدراكا وتفهما ، أو أهلية توثقية ، مثل أن تكلف الأعمى مثلا الإقرار بإعجاز ما من شأنه أن يرى ، إذ عليه أن يؤمن بما لم ير ، ولكن عليه أن يتوثق لهذا الإيمان بما يشاء دون إعنات ، وقريب من إيمان الأعمى إيمان أهل بيئة بما وقع فى بيئة أخرى ، أو إيمان أهل عصر بما وقع لأهل عصر سابق ، ومن هذه الأهلية التوثقية إيمان غير العربى بإعجاز كلام عربى ، فهو والأعمى فيما لا يرى سواء ، وكذلك فيما كان فيه اختلاف فى البيئة أو اختلاف فى العصر.

ومما أجراه الله تعالى على يد موسى عليه‌السلام مثلا فى عصاه ، كان هذا مما يملك قوم موسى أسبابه قوة ، وكانوا منه على أهلية بمراتبها الثلاث ، الذاتية والحملية والتوثقية.

وما أجراه الله تعالى على لسان رسوله محمد صلى الله وسلم من قرآن كريم ، كان

٢٩

هذا مما يملك العرب أسبابه فعلا وغير العرب قوة ، وكان هؤلاء على أهليات ثلاث ، فالعرب المجودون على أهلية ذاتية ، وغير المجودين منهم على أهلية حملية ، وغير العرب من ذوى الألسنة الأخرى على أهلية توثقية.

هذا من حيث أسلوب الكتاب الكريم وصوغه ، أما من حيث معناه وما تنطق به آياته من تشريع وهداية وتبيين ، فالجميع ـ عربا وعجما ـ يملكون أسبابه فعلا ، وهم فيه جميعا على أهلية بأقوى مراتبها ؛ وهى الذاتية ، لهذا كان هذا الشق من التحدى أجمع وأعم. فالقرآن الكريم معجز بشقيه كما قلت لك ، هذا الشق اللفظى وذاك الشق المعنوى ، بهما معا تحدى الرسول أمم الأرض كلها ، وهو وإن كان قد جمع بشقه الأول الناس عليه بأهليات تتفاوت شيئا ، فقد جمع بشقه الثانى الناس عليه بأهلية لا تفاوت فيها ولا تخلف.

والله تعالى أجل من أن يجعل كتابه الكريم لذلك الشق الأول ، أو ليكون لذلك الشق الأول النصيب الأوفر ، فقد أرسل رسوله معلما ، وهاديا ، وكان هذا الكتاب الكريم لهذا التعليم وتلك الهداية ، وكان هذان هما رسالة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وإذا كان محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم عربيّا بين عرب لا يتقبلون إلا ما كان فصيحا كان لا بد من أن يساق إليهم كلام الله تعالى فصيحا ليقبلوا عليه ، وكان لا بد من أن يساق إليهم كلام أفصح مما يعهدون كى لا يصرفوا بغيره مما هو فى مثل درجة فصاحته عنه ، لهذا كان الإفصاح فى القرآن ، ولهذا جاء كلام الله تعالى يمهد بإعجازه اللفظى لإعجازه المعنوى.

إذن فالوقوف عند الشق الأول وحده من إعجاز القرآن تعطيل لشقه الآخر ، فالقرآن معجز بهما كما هو معجز بكل منهما ، وفى عرضهما تعريف بالإعجاز على وجهة المراد من القرآن وتعريف برسالة الرسول التى حملها القرآن ، إذ هو لم يجئ بهذا الإعجاز اللفظى فحسب ، وإنما جاء بالرسالة أولا وزفها فى هذا الثوب الذى يليق بها ، وكما كانت الرسالة معجزة كان هذا الثوب معجزا.

٣٠

والغريب أن نجد الهمم قد انصرفت إلى هذا الشق الأول أكثر مما انصرفت إلى الشق الثانى ، وأنهم منذ بدأ الخطابى أبو سليمان محمد بن إبراهيم (٣٨٨ ه‍) فألف رسالته : «بيان إعجاز القرآن» والمؤلفون فى إثره على الطريق صانعون ما صنع ، فنرى من بعده الباقلانى أبا بكر محمد بر الطيب (٤٠٣ ه‍) ثم أبا الحسن عبد الجبار (٤١٥ ه‍) ثم الجرجانى عبد القاهر بن عبد الرحمن (٤٧١ ه‍) ولكل منهم كتاب أو جزء من كتاب فى الإعجاز اللفظى ، ولم يبعد عنهم الزمخشرى محمود بن عمر (٥٣٨ ه‍) فى تفسيره. ولا عياض بن موسى (٥٤٤ ه‍) فى كتابه «الشفا فى التعريف بحقوق المصطفى» ولا ابن عطية عبد الحق بن أبى بكر (٥٤٦ ه‍) فى تفسيره المعروف باسم «الجامع المحرر» وحتى الذين تناولوا هذا الموضوع من المتأخرين.

ولا نرى من هؤلاء المتأخرين من جنح للرأى الذى قلناه من قبل غير محمد فريد وجدى ، فهو يضم إلى الجانب اللفظى هذا الجانب المعنوى ، وأعنى به الرسالة التى تضمنها القرآن الكريم.

لهذا كان علينا أن نلتفت إلى رسالة القرآن السامية بقدر ما نلتفت إلى أسلوبه الحكيم.

فإعجاز القرآن أسلوبا إن ملك العرب له الأهلية الذاتية ، فغير العرب وهم كثيرون يملئون العالم إلا أقله ، لا يملكون هذه الأهلية الذاتية ، وإن ملكوا الأهلية الحملية ، أو الأهلية التوثقية ، وما أحب لهؤلاء أن يجتمعوا على القرآن وإعجازه عن طريق اثنتين ، وإنما أحب لهم أن يجتمعوا على القرآن وإعجازه عن طريق ثلاث أهليات ، أولاها الذاتية ، أحب لهؤلاء أن يعرفوا رسالة القرآن من القرآن ، وأحب لهم أن يتبينوا إعجاز هذه الرسالة. وهم فى هذه الأهلية والعرب سواء.

من أجل ذلك أحب للمؤلفين فى إعجاز القرآن أن يفسحوا لصفحاتهم أن تمتلئ بهذا ، وأحب لهم أن تجرى أقلامهم فى هذا الشق بعد ما أجرى الكثيرون ممن سبقونا أقلامهم فى الشق الآخر ، ولم يعد لنا مزيد نقوله بعدهم.

٣١

فأنا حين أدعو غير العربى إلى الإيمان بإعجاز القرآن أسلوبا ناظر إلى أهليته الحملية ثم أهليته التوثقية ، وهو بهما مكلف بالتصديق ولا مهرب له ، أما أن أحمله على تعلم العربية وأن أتلبث به إلى أن يتقنها ، وقد يقضى عمره دون أن يتقنها ، فذلك ما لا أقول به ، ولا يحتج عليّ بأن ثمة نفرا من غير العرب تعلموا العربية أو أتقنوها إتقان العرب ، مثل : عبد الحميد الكاتب ، وابن المقفع ، وابن العميد.

ومن أجل هذا أحببت أن يكون المشق الثانى من الإعجاز ، وهو الرسالة ، نصيبه هو الآخر ، إذا أردنا أن تعم الدعوة أهل الأرض جميعا ، كما أراد لها صاحبها محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

ولقد وقف مؤلف قديم وهو القاضى عبد الجبار موقفى من هذه القضية ، وذلك حيث يقول فى الجزء الذى أفرده من كتابه الكبير المغنى الإعجاز القرآن حيث يقول (ص ٢٩٤ ـ ٢٩٥) :

«فخبرونى عن العجم أتقولون إنهم يعرفون من حال القرآن ما ذكرتم أم لا يعرفونه؟ فإن قلتم : يعرفون ذلك. قيل لكم : فمن لا يعرف الفصاحة أصلا كيف يعرف مزية كلام فصيح على غيره ، ومن لا يعرف القدر المعتاد من رتبة الفصاحة كيف يعرف الخارج عن هذا الحد؟ فإن قلتم : إنهم لا يعرفون ذلك فيجب ألا يكونوا محجوجين بالقرآن ، وعندكم أنه الحجة الظاهرة والمعجزة الباهرة دون غيره ، فيجب ألا تلزم العجم نبوة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولو لم تلزمهم لكانوا لا يستحقون الذم على ترك الشريعة ، ولما استحقوا الذم ، ولما كانوا كفارا بالرد على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقد ثبت من دين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خلافه ، فيجب أن يكون ذلك قد جاء فى كون القرآن معجزا ، لأن ما أوجب كونه معجزا يوجب كونه الحجة على الخلق ، وما منع من كونه حجة على البعض يمنع من كونه حجة على الجميع؟

قيل له : إن الجميع من العجم يعرف حال القرآن وما يختص به من المزية

٣٢

فى الجملة بعجز العرب عن معارضته مع توفر الدواعى ، وذلك مما لا يحتاج فى معرفته إلى طريقة التفصيل ، فلا يمتنع منهم أن يعرفوا ذلك.

فأنت ترى معى أنى متفق والقاضى عبد الجبار فى إيمان غير العربى بإعجاز القرآن أسلوبا ، وإن كنت قد زدت على القاضى عبد الجبار هذه التسمية التى سميتها بالأهلية الحملية والأهلية التوثقية.

ولعلك وقفت معى عند كلمة القاضى عبد الجبار «فإن قلتم إنهم لا يعرفون ذلك فيجب ألا يكونوا محجوجين بالقرآن ، وعندكم أنه الحجة الظاهرة والمعجزة الباهرة دون غيره» ، فهو من غير شك يتكلم عن إعجاز القرآن أسلوبا ولم يلتفت إلى إعجازه رسالة ليجعل منها هى الأخرى حجة القرآن.

نعم إن الأمر كما قلت لك هو انصراف الأقدمين جملة إلى هذا الشق ـ وأعنى به الشق الأسلوبى ـ أكثر من انصرافهم إلى الشق الثانى من إعجاز القرآن ، ألا وهو الرسالة.

* * *

وقد اختلف الأقدمون فى الإعجاز على أقوال ، أصحها :

١ ـ تأليفه الخاص به ، فى اعتدال مفرداته تركيبا ، وعلو مركباته معنى.

٢ ـ ما فيه من الإخبار عن الغيوب المستقبلة ، مما أخبر به بأنه سيقع فوقع.

٣ ـ ما تضمنه من إخبار عن قصص الأولين وسائر المتقدمين ، حكاية من شاهدها وحضرها.

٤ ـ أن التحدى إنما وقع بنظمه ، وصحة معانيه ، وتوالى فصاحة ألفاظه ، ووجه إعجازه أن الله قد أحاط بكل شىء علما. والإتيان بمثل القرآن لم يكن قط فى قدرة أحد من المخلوقين. ولقد قامت الحجة على العالم بالعرب ، إذ كانوا أرباب الفصاحة وفطنة المعارضة.

(ـ ٣ ـ الموسوعة القرآنية ـ ج ٣)

٣٣

٥ ـ ما فيه من النظم والتأليف والترصيف ، وإنه خارج عن جميع وجوه النظم المعتادة فى كلام العرب ، ومباين لأساليب خطاباتهم ، ولهذا تمكنهم معارضته.

٦ ـ أنه شىء لا يمكن التعبير عنه ، يدرك ولا يمكن وصفه ، فلا يشار إلى شىء منه إلا وكان ذلك المعنى آية فى نفسه وليس فى طاقة البشر الإحاطة بأغراض الله فى كلامه وأسراره فى كتابه.

٧ ـ استمرار الفصاحة والبلاغة فيه من جميع أنحائها فى جميعه استمرارا لا توجد له فترة ، ولا يقدر عليه أحد من البشر ، وكلام العرب لا تستمر الفصاحة والبلاغة فى جميع أنحائه فى العالم منه إلا فى الشيء اليسير المعدود ، ثمّ تعرض الفترات له فلا تستمر فصاحته.

٨ ـ مجيئه بأفصح الألفاظ فى أحسن نظم التأليف ، مضمنا أصح المعانى ، من توحيد الله تعالى وتنزيهه فى صفاته ودعاء إلى طاعته وبيان لطريق عبادته فى تحليل وتحريم وحظر ، ومن وعظ وتقويم ، وأمر بمعروف ونهى عن منكر ، وإرشاد إلى محاسن الأخلاق ، وزجر عن مساويها ، واضعا كل شىء منها موضعه الذى لا يرى شىء أولى منه ، ولا يتوهم فى صورة العقل أمر أليق منه ، مودعا أخبار القرون الماضية ، وما نزل من مثلات الله بمن عصى وعاند منهم ، منبئا عن الكوائن المستقبلة فى الأعصار الماضية من الزمان ، جامعا فى ذلك بين الحجة والمحتج له ، والدليل والمدلول عليه ، ليكون ذلك أوكد للزوم ما دعا إليه ، وإنباء عن وجوب ما أمر به ونهى عنه.

٩ ـ اختلاف المقامات ووضع كل شىء فى موضع يلائمه ، ووضع الألفاظ كل فى الموضع الذى يليق به ، ولو أبدل واحد منها بالآخر ذهبت تلك الطلاوة ، من ذلك لفظ الأرض ، لم ترد فى التنزيل إلا مفردة ، وإذا ذكرت والسماء مجموعة ، لم يؤت بها معها إلا مفردة ، وحين أريد الإتيان بها مجموعة قيل : (وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَ) الطلاق : ١٢ ، تفاديا من جمعها.

٣٤

(١٤) أفعل التفضيل :

وفيه قواعد :

١ ـ إذا أضيف إلى جنسه لم يكن بعضه ، وعليه قوله تعالى : (أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ) هود : ٤٤ أى أحكم من كل من تسمى بحاكم.

٢ ـ إذا ذكر بعد ما هود من متعلقاته وجب نصبه على التمييز ، كقوله تعالى :

(أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً) النساء : ٧٧ ، وأشد ، هنا لغير الخشية ، والتأويل : مثل قوم أشد خشية من أهل خشية الله.

٣ ـ الأصل فيه الأفضلية على ما أضيف إليه ، كقوله تعالى : (وَما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها) الزخرف : ٤٨ ، فالغرض وصفهن بالكفر من غير تفاوت فيه.

٤ ـ لا ينبنى من العاهات ، فلا يقال : (ما أعور) ، وعليه قوله تعالى : (وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى) الإسراء : ٧٢ ، إذ هو من عمى القلب الذى يتولد من الضلالة ، وهو ما يقبل الزيادة والنقص ، لا من عمى البصر الذى يحجب المرئيات عنه.

٥ ـ يكثر حذف المفضول إذا دل عليه دليل ، وكان «أفعل» خبرا ، كقوله تعالى :

(وَاللهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ) آل عمران : ٣٦.

٦ ـ وقد يحذف المفضول ، وليس «أفعل» خبرا ، كقوله تعالى : (فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى) طه : ٧.

٧ ـ قد يجيء مجردا عن معنى التفضيل ، فيكون التفضيل لا للأفضلية ، وهذا يأتى :

(أ) إما مؤولا باسم فاعل ، كقوله تعالى : (هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ) النجم : ٣٢ ، فأعلم ، هنا بمعنى : عالم.

٣٥

(ب) وإما مؤولا بصفة مشبهة ، كقوله تعالى : (وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) الروم :

٢٧ فأهون ، هنا بمعنى : هين ، إذ لا تفاوت فى نسبة المقدورات إلى قدرته تعالى.

٨ ـ و «أفعل» فى الكلام على ثلاثة أضرب :

(أ) مضاف ، كقوله تعالى : (أَلَيْسَ اللهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ) التين : ٨.

(ب) معرف باللام ، كقوله : (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) الأعلى : ١.

(ج) خال منهما ، ويلزم اتصاله بالحرف «من» ، الذى هو لابتداء الغاية ، جارا للمفضل عليه ، كقوله تعالى : (أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالاً) الكهف : ٣٤.

* * *

(١٥) الاقتصاص :

وهو أن يكون كلام فى سورة مقتصّا من كلام فى سورة أخرى أو نفسها كقوله تعالى : (وَلَوْ لا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ) الصافات : ٥٧ ، مقتص من قوله تعالى : (فَأُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ) الروم : ١٦.

* * *

(١٦) الالتفات :

وهو نقل الكلام من أسلوب إلى أسلوب آخر ، تطرية واستدرارا للسامع ، وتجديدا لنشاطه وصيانة لخاطره من الملال والضجر بدوام الأسلوب الواحد على سمعه ، بشرط أن يكون الضمير فى المنتقل إليه عائدا فى نفس الأمر إلى المنتقل عنه ، وهو أقسام :

١ ـ الالتفات من التكلم إلى الخطاب ، كقوله تعالى : (وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) يس : ٢٢ ، الأصل : وإليه أرجع ، فالتفت من التكلم إلى الخطاب ،

٣٦

فلقد أخرج الكلام فى معرض مناصحته لنفسه ، وهو يريد فصح قومه ، تلطفا وإعلاما أنه يريد لهم ما يريد لنفسه ، ثم التفت إليهم لكونه فى مقام تخويفهم ودعوتهم إلى الله.

٢ ـ من التكلم إلى الغيبة ، كقوله تعالى : (إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ ، فَصَلِّ لِرَبِّكَ) الكوثر : ١ ، ٢ ، حيث لم يقل «لنا» تحريضا على فعل الصلاة لحق الربوبية.

٣ ـ من الخطاب إلى التكلم ، كقوله تعالى : (فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا. إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا) طه : ٧٢ ، ٧٣.

٤ ـ من الخطاب إلى الغيبة ، كقوله تعالى : (حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ) يونس : ٢٢ ، فعدل عن خطابهم إلى حكاية حالهم لغيرهم ، لتعجبه من فعلهم وكفرهم ، إذ لو استمر على خطابهم لفاتت تلك الفائدة.

٥ ـ من الغيبة إلى التكلم ، كقوله تعالى : (وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا) فصلت : ١٢.

٦ ـ من الغيبة إلى الخطاب ، كقوله تعالى : (وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً. لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا) مريم : ٨٨ ، ٨٩.

٧ ـ بناء الفعل للمفعول بعد خطاب فاعله أو تكلمه ، فيكون التفاتا عنه» كقوله تعالى : (صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ) الفاتحة : ٧.

وللالتفات أسباب :

(أ) عامة ، وهى التفنن والانتقال من أسلوب إلى آخر ، لما فى ذلك من تنشيط السامع ، واستحلاب صفاته ، واتساع مجارى الكلام ، وتسهيل الوزن والقافية.

(ب) خاصة ، وهذه تخلف باختلاف محاله ، ومواقع الكلام فيه على ما يقصده المتكلم ، ومنها :

٣٧

١ ـ قصد تنظيم شأن المخاطب ، كقوله تعالى : (وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً) الإسراء : ١١١ ، فإن التأدب فى الغيبة دون الخطاب. وقيل : إنه كما ذكر الحقيق بالحمد وأجرى عليه الصفات العظيمة ، من كونه ربّا للعالمين ، ورحمانا ورحيما ، ومالكا ليوم الدين ، تعلق العلم بمعلوم عظيم الشأن ، حقيق بأن يكون معبودا دون غيره ، مستعانا به ، فخوطب بذلك لتميزه بالصفات المذكورة ، تعظيما لشأنه كله ، حتى كأنه قيل : إياك يا من هذه صفاته نخص بالعبادة والاستعانة لا غيرك.

٢ ـ التنبيه على ما حق الكلام أن يكون واردا عليه كقوله : (وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) يس : ٢٢ ، أصل الكلام : وما لكم لا تعبدون الذى فطركم ، ولكنه أبرز الكلام فى معرض المناصحة لنفسه ، وهو يريد مناصحتهم ليتلطف بهم ويريهم أنه لا يريد لهم إلا ما يريد لنفسه ، ثم لما انقضى غرضه من ذلك قال : (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) ليدل على ما كان من أصل الكلام ومقضيّا له.

٣ ـ قصد المبالغة ، كقوله تعالى : (حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ) يونس : ٢٢ ، كأنه يذكر لغيرهم حالهم ليتعجب منها ويستدعى منه الإنكار والتقبيح لها ، إشارة منه على سبيل المبالغة إلى أن ما يعتمدونه بعد الإنجاء من البغى فى الأرض بغير الحق مما ينكر ويقبح.

٤ ـ قصد الدلالة على الاختصاص ، كقوله تعالى : (وَاللهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنا بِهِ) فاطر : ٩ ، فإنه لما كان سوق السحاب إلى البلد الميت وإحياء الأرض بعد موتها بالمطر دالا على القدرة الباهرة التى لا يقدر عليها غيره ، عدل عن لفظ الغيبة إلى التكلم ، لأنه أدخل فى الاختصاص وأدل عليه.

٥ ـ قصد التوبيخ ، كقوله تعالى : (وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً. لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا) مريم : ٨٨ و ٨٩ ، عدل عن الغيبة إلى الخطاب للدلالة على أن قائل مثل قولهم ينبغى أن يكون موبخا ومنكرا عليه ، ولما أراد توبيخهم على هذا أخبر عنه بالحضور ، لأن توبيخ الحاضر أبلغ فى الإهانة له.

* * *

٣٨

(١٧) أول ما نزل من القرآن وآخر ما نزل :

أول ما نزل من القرآن قوله تعالى : (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) العلق : ١ ، ثم كانت فترة الوحى التى مكثت سنين ثلاثا ، وبعدها أخذ القرآن ينزل على الرسول منجما ، فنزلت : ن والقلم ، ثم المزمل ، ثم المدثر ، إلى غير ذلك مما نزل ، مقامه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمكة ، منذ بعث إلى أن هاجر ، وكان ذلك اثنتى عشرة سنة وخمسة أشهر وثلاثة عشر يوما ، أى منذ اليوم السابع عشر من رمضان من سنة إحدى وأربعين من مولده إلى اليوم الأول من شهر ربيع الأول من سنة أربع وخمسين من مولده.

وأما آخر ما نزل من القرآن الكريم فمختلف فيه ، فقيل قوله تعالى : (إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ) النصر : ١ ، وقيل : قوله تعالى : (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) ، وقيل : قوله تعالى : (وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ) البقرة : ٢٨١ ، وكان بين نزولها ووفاة النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم أحد وثمانون يوما ، وقيل. تسع ليال.

* * *

(١٨) الإيجاز :

وهو قسم من الحذف ، ويسمى : إيجاز القصر ، وهو قسمان :

(١) وجيز بلفظ (٢) وجيز بحذف

١ ـ الوجيز باللفظ ، وهو أن يكون اللفظ بالنسبة إلى المعنى أقل من القدر المعهود عادة ، وهو إما :

(أ) مقدر ، وهو الذى يكون مساويا لمعناه ، ومنه قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ ...) النحل : ٩٠.

(ب) مقصور ، وهو ما يكون أقل من معناه ، ونقصان لفظه عن

٣٩

معناه يكون لاحتمال لفظه لمعان كثيرة ، وذلك كاللفظ المشترك الذى له مجازان ، أو حقيقة ومجاز ، إذا أريد معاينة ، كقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِ) الأحزاب : ٥٦ فإن الصلاة من الله مغايرة للصلاة من الملائكة.

والإيجاز أنواع ، منها :

١ ـ الاقتصار على السبب الظاهر للشيء اكتفاء بذلك عن جميع الأسباب ، ومنه قوله تعالى : (أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ) النساء : ٤٣ ، ولم يذكر النوم وغيره ، لأن السبب الضرورى الناقض هو خروج الخارج ، فإن النوم الناقض ليس بضرورى ، فذكر السبب الظاهر وعلم منه الحكم في الباقى.

٢ ـ الاقتصار على المبتدأ أو إقامة الشيء مقام الخبر.

٣ ـ لفظ (فعل) ، فإنه يجيء كثيرا كناية عن أفعال متعددة.

٤ ـ باب (علم) ، إذا جعلنا الجملة سادة مسد من المفعولين.

* * *

(١٩) البسملة ـ انظر : التعوذ.

* * *

(٢٠) التأخير ـ انظر : التقديم والتأخير.

* * *

(٢١) التتميم :

وهو أن يتم الكلام فيلحق به ما يكلمه ، إما احترازا ، أو احتياطا ، وقيل : هو أن يأخذ فى معنى فيذكره غير مشروح ، وربما كان السامع لا يتأمله ، ليعود المتكلم إليه شارحا ، كقوله تعالى : (وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً) الدهر : ٨ ، فالتتميم فى قوله (عَلى حُبِّهِ) جعل الهاء كناية عن الطعام مع اشتهائه.

٤٠